الاثنين، 4 ديسمبر 2017

الفن هو المخلّص والمؤثر الأوّل في وعي الشعوب

تعد تجربة الكاتب الفنان التشكيلي الكويتي أسعد بوناشي... من التجارب التشكيلية المهمة، تلك التي اتسمت بالكثير من المفردات التشكيلية التي تعبر عن الإنسان في كل أحواله، كما أنها تمنح الحياة لغة أخرى متناسقة مع الواقع والخيال معا، وإلى جانب هذه اللغة التشكيلية المتفردة فإن لبوناشي رأيه الواضح في الفنون التشكيلية في كل مستوياتها، ولقد أفضى لـ«الراي» بالكثير من تلك الأحاديث المتعلقة بالفنون الجميلة وما شملها من تطور، في مختلف بلدان العالم.

ليقول: «لا شك أن عالمنا العربي اليوم يمر بمرحلة حرجة في ظل ما يشهده من توترات وثورات وحروب أهلية وأعمالٍ عسكرية، وإذا كنا سنفترض حتمية ظهور رجل خارق ليصلح عالمنا، ومن صفاته الوعي والإدراك والقوة الناعمة المؤثرة والتوازن والتعاطف، فإن ذلك الخارق هو (الفنّ) بكلّ أشكاله، وهي كلمة تختزل جميع السمات المذكورة آنفاً. الفنّان، تشكيلياً كان أو شاعراً أو سينمائياً، هو المؤثر الأوّل في وعي الشعوب. و عام 2014 أثبتت دراسة طبية أجريت على يد الباحثة روبيكا تشامبرلين في مختبر جامعة لوفين (بلجيكيا) ان الأشخاص المتميزين في الإبداع خصوصاً الرسم لهم هيكل عصبي متميز وأكثر تطورا في أجزاء الدماغ عن غيرهم.... وللفنون المرئية نصيب الأسد في التأثير على مجتمعاتها، صورة أو لوحة واحدة تساوي مئات الكلمات التي قد تستغرق ساعات طوال من الشرح. وإذا عدنا بذاكرتنا الطفولية، قبل ظهور وانتشار الانترنت، نتذكر حينما كان يرسم المعلم على السبورة كرةً وحولها خاتمٌ من الأجرام ليبين لنا شكل كوكب زحل وهو تمثيل مبسط يغنينا عن الاستطراد الوصفي وكفيل بترسيخ صورة الكوكب وربطها ذهنيا مع اسمه لدى المتلقي. هذا مجرد مثال على القوة الكامنة في الرسوم التوضيحية، وهي في مجال العلوم التطبيقية أعمال فنية بالدرجة الأولى»
  
وأضاف بوناشي: «رغم ذلك، تعاني الفنون في وزارات التربية والتعليم في البلدان العربية- بشكل عام- من نظرة دونية أو غير جدية في أحسن الأحوال، كمواد ثانوية لتسلية الطلبة. هذه النظرة يستحيل أن تجد لها مثيلاً في الدول المتحضرة المتقدمة في أوروبا مثلاً أو غيرها». اللوحة الفنية مرسومة كانت أو منقوشة جدارية ساهمت على مرّ العصور في تسجيل حضارات الأمم والتعبير عن ثقافاتها وحفظها سواء في بلاد الرافدين أو مصر القديمة (الفراعنة) وأوصلت لنا مفاهيم لم نكن لندركها لولا الإرث الذي حفظه الفن: الرسم والنحت.

وكان نابليون يستعين بأعظم فناني فرنسا مثل اجاكويس دايفد لتوثيق انتصاراته وانجازاته، وكذلك فعل ملوك روما مع دافنشي ورفاييل، وانجلترا مع ووتر هاوس وبيجيريو والاكاديمية الإنكليزية، ووثق الفنان البرخت ألتدولفر للتاريخ الألماني معركة إسوس الاسكندر (300 ق.م). لا يمكن الاستهانة بدور الفن في هذه التوثيقات التاريخية التي شكلت وغيرها الوعي الأوروبي وكان لها العامل الأول في بناء حضارة أوروبا المعاصرة، ولا يخفى على أحد اليوم اهتمام الأوروبيين بالحفاظ على لوحاتهم الفنية عبر عنايتهم الكبيرة بالمتاحف كسجل تاريخي للأجيال المقبلة، بينما لا يوجد لدينا في الكويت متحفٌ واحد يوثق تاريخنا مرسوماً أو حتى مصوراً فوتوغرافياً».
 
متحف اللوفر - تمثال الاسد


وتحدث الفنان عن «قيام متحف اللوفر في باريس بجمع منمنمات ومنحوتات ومخطوطات من الحضارة الإسلامية وعرضها في عام 2015، في قاعات الفنون الاندلسي والفارسية، إلا أننا لم نسمع بدولة عربية أولت إرث الحضارة الإسلامية الاهتمام الذي حظي به في اللوفر؛ لماذا؟ يمكن تلخيص الإجابة في ثلاث نقاط أساسية تتعلق بالكويت ويمكن تعميمها على الدول العربية:
أولاً، ومن واقع خبرة لأكثر من 20 عاماً كمعلّم في وزارة التربية، لم أجد مديراً واحداً في أكثر من ثمانية مدارس حكومية مارست فيها مهنة التعليم، يعطي أهمية للإبداع والتربية الفنية، ومن جهة أخرى لا يوجد في الكويت كلية للفنون إلى يومنا هذا، وإن وجدت في البلدان العربية فتعاني من التهميش.
ثانياً، لا يتم التعامل مع الفنون كمهن مجدية في سوق العمل، أو كتخصصات أكاديمية جادة، بينما تضع دول العالم المتحضر الدراسات الفنية في مصاف ما يقابلها من التخصصات العلمية كالهندسة والفيزياء وغيرها، وذلك وفق تقرير اليونيسكو لجامعات دول العالم في 2016.
ثالثاً، يعاني الفن من تيارات دينية تتخذ من الفنون أحكاماً مسبقة ومتخلفة، وأنظمة تناهضه أو تقلل من شأنه، النحت والرسم التشكيلي خصوصاً. ولقد كان قدر الفنان دوماً مواجهة الفكر السائد وتحريك المياه الراكدة. لقد قاسى الفنانون التشكيليون عبر التاريخ القتل والتعذيب والحبس والحرمان من مزاولة الرسم، فقط لأنهم رفضوا الانضمام لأحزاب الأنظمة أو رسموا ما يخالف أهدافها، وعبّروا عن فكرهم بحرية. ومن أولئك النحات الإيطالي المشهور مايكل انجلو الذي تعرضت أعماله للاستهزاء من قبل رئيس الباباوات، حينما قال: العراة في لوحة مايكل انجلو يجب أن يكونوا في إحدى حانات الدعارة. وانتقم منه انجلو برسمه على هيئة شيطان وبات 500 عام يراه العالم شيطاناً في لوحة القيامة.
أما الفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي، فقد ولد في أحياء فقيرة وعانى في طفولته القمع في مخيمات اللاجئين، لكنه لم يستسلم وحينما بدأ يعبر عن آرائه رسماً على الجدران كان يتعرض للضرب والحبس من قوات الاحتلال. ولم تنكسر فيه روح الفنان بل استمر في التعبير عن أفكاره واحتلت رسوماته الصحف والمجلات، حتى تعرض للاغتيال أمام مكتب جريدة القبس الكويتية في لندن حيث كان يعمل، وبقي في التاريخ كأحد أهم المؤثرين في القضية الفلسطينية، من غير سلاح سوى الفن».
واستطرد في حديثه: «كذلك تعرض الفنان السوري علي فرزات للتهديد والاختطاف ليلاً أثناء خروجه من مكتبه والاعتداء عليه بكسر يديه، وهو المعروف برسوماته الجريئة الناقدة للنظام. كما اضاف الفنان فرزات في حوارٍ معه عن تجربته في حياته السياسية واثر اللوحات ورسوماته فقال فنان الكاريكاتور عندما يعكس ملامح الناس في لوحاته ويقف في وجه الظلم والظلام ويحمل آلامهم وآمالهم وطموحاتهم انما يبني جسرا من الثقة والمحبة ويكون مؤثرا وفاعلا في قلوب وعقول الجماهير وبالتالي سيكونوا هم من يدافع عن هذا الفنان حين يتعرض لاذى من الأنظمة الفاسدة والمافيات والسماسرة الذين يلعبون في أسواق بورصة عذابات الناس وشقاءهم وان أهم الرسوم الكاريكاتيرية تلك التي تحمل في طياتها تجربة ومعاناة الرسام نفسه باطار ساخر ناقد لتكون منعكسا صادقا وفاعلة لدى الشارع فتحركه باتجاه محاربة الفساد والظلم... لقد اتبعت في رسوماتي تلك القاعدة التي تقول ان اللوحة العالمية تقاس بمضمونها الانساني الذي ينطلق من محليته ليتجاوز الحدود الى العالم حينها ستتوسع القاعدة الانسانية والاعلامية لتلك الرسوم ويصبح جمهور الرسام في كل مكان بالعالم ومنهم الفنانون والأدباء والمثقفون ويتحولون الى مدافعين عنه في الاوقات الصعبة وتصبح قضية الرسام هي قضية العالم الوفي وهذا ماحصل فعليا عندما واجهتني قوى الشر والفساد والظلم حين تصديت لهم من خلال رسوماتي الساخرة الناقدة! أما الفنانة الأوكرانية الشابة داريا مارشينكو فصنعت لوحة (وجه الحرب)، بورتريه للرئيس الروسي بوتين من خمسة آلاف رصاصة جمعت من أصدقاء لها يقاتلون في أوكرانيا الشرقية، ورغم ما تعرضت له من المضايقات، فقد انتشرت لوحتها واطلع عليها العالم وأوصلت رسالتها التي أوجزتها بالقول: أرجو منه على الأقل أن يفكر بالأمر ويتساءل إذا ما كان يريد أن يتذكره العالم بهذا الشكل».


هكذا هو الفن على مر العصور، إنه القلم، ريشة الفنان، أقوى سلاح على وجه الأرض، ناقل الحضارات وحافظها من الاندثار. هو المؤثر الاول في الطفل، يجري في عروقه ويختزن في عقله الباطن، مثلما فعل المعلم الذي رسم زحل بالطباشير، ومثلما شكلّت والت ديزني وعي أجيالٍ بذاكرة جمعيّة حول العالم... إن الفنّ هو المخلّص.